فيما كان وما سيكون

الجمعة، سبتمبر 18، 2009

الازدواجية: بين التعليم المدرسي والتعاليم الدينية موذجاً


لو نظرنا اليوم إلى الثقافة الإسلامية عموماً والثقافة الوهابية والإباضية خصوصاً، فسنجد بوناً شاسعاً حد التضارب بين التعاليم الدينية المذهبية والتعليم المدرسي النظامي: فمثلاً يعلمون الأطفال في المدارس الفنون كالرسم والنحت والتصوير والموسيقى والرقص، بينما يعلمهم المشايخ والكثير من الآباء والأمهات أن هذه الأمور بدعٌ محرمة: سيصب الله في آذانكم الرصاص المذاب لو استمتعوا للموسيقى والغناء مثلاً. فريقٌ يعلم لغة اليوم وفريقٌ ينادي بلغة الأمس.

وحين يكبرون، يتعلمون في المعاهد والجامعات أصول الاقتصاد والتجارة الحديثة كالمعاملات البنكية والتأمين، وتبقى التعاليم الدينية تصب عليهم ليلاً نهاراً بأن هذه المعاملات من الربى المحرم شرعاً.

وحين يخرجون إلى سوق العمل ينقطع التعليم وتبقى التعاليم: أتذكر هنا فتوى مفتي عمان بحرمة شراء أسهم الشركة الوطنية للاتصالات، وأتخيل معاناة الراغبين في الدخول في سوق الأسهم الواقفين بين مطرقة الفقر والحاجة، أو حتى الطمع، من جهة وسندان التعاليم الدينية من جهة أخرى. (كما أتذكر استحواذ فئات أخرى على أسهم الشركة: إما لأنهم رموا بهذه التعاليم وراء ظهورهم أو لأن مذهبهم له ازدواجيته الأخرى).




من منا لا يعيش بشخصيتين (على الأقل): واحدة ظاهرة وأخرى باطنة؟ ومن منا لا يعيش بنمطيين سلوكيين؟؟ لا أقصد هنا بالطبع الازدواجية بمفهومها المرضي الذي يحتاج إلى تدخل خارجي (حتى الآن)، وإنما الحديث عن المفهوم السلوكي اليومي الذي تفرضه العادات والتقاليد والأديان. أستطيع أن أجزم ألا أحد. في كل المجتمعات وعبر الأزمنة والحضارات: والمثال الشائع هنا هو: إن الإنسان يأكل عندما يكون مع الناس بطريقة تختلف عن الطريقة التي يأكل بها حين يكون وحيداً.


الفرق سيكون في المقدار فقط وليس في النوع. بمعنى: إن فكرة الشخصيتين قائمة لا محالة ولكنها ستتفاوت، من أمة إلى أخرى، في البون بين الشخصية الظاهرة والأخرى الباطنة.

لازدواجية الشخصية أسباب كثيرة: فهي نتاج ثقافي حضاري من جهة وسبب في استمرارية الثقافة والحضارة من جهة أخرى. ما أعنيه هنا هو إن بعض الممارسات الاجتماعية والقيم والمبادئ والطقوس التي يقرها مجتمع ما تحتم على الإنسان أن يسلك مسلكين: مسلك يحفظه في المجتمع وآخر يحقق مآربه التي لا يقرها المجتمع. بهذه الوسيلة التفاوضية المهادنة تنشأ الازدواجية وتتعمق بقدر العمق بين متطلبات المجتمع ومناهجه ومتطلبات الفرد ورؤاه.
  

متى تصبح هذه الازدواجية ظاهرة اجتماعية سيئة: تضر بالفرد والجماعة وبالثقافة عموماً؟؟ عندما تبدأ في تعطيل مسيرة المجتمع ونموه الحضاري والاقتصادي. وعندما تبدأ هذه الازدواجية في إيذاء الفرد نفسياً وجسدياً ومالياً. وعندما يشعر الفرد بأنه لم يعد ينتمي إلى هذه الثقافة ولم يعد قادراً على تحمل المزيد من الازدوجية والتمثيل. عندما تقوم الازدواجية على التمزيق أكثر مما تقوم على الترقيع أو عندما يصبح ترقيعها شكلياً وبالياً.وعندما يضمحل التجانس الجمعي ومع ذلك تصر بعض القوى الاجتماعية أو الدينية على أن يبقى الجميع متلاحمين بالقوة، وبالأنماط التي لا يعرفون ولا يعترفون بغيرها.

لهذه الازدواجية تبعات كثيرة: منها ما يمس الفرد ويؤذيه نفسياً حين يجد نفسه يعيش في قطيع يرفضه ولا ينتمي إليه إلا اسمياً، ومنها ما يضر بالعلاقات الأسرية والاجتماعية، كأن تجد زوجيين دارت بهما الأيام ليبقى أحدها من القطيع ويُطرد الآخر خارجه، ومنها ما يمس الاقتصاد الوطني بفرضه أنماطاً بدائية من المعاملات تعطل تدفق الأموال والنمو الطبيعي للاقتصاد، ومنها ما يمس التقدم والرقي الحضاري بالمقاييس التي تريد الدولة أن تتبعها، ومنها ما يمس الأمن القومي للبلد: حين تصر التعاليم على موقفها وعلى مقاييسها ولكنها لا تجد سماءً لتمد فروعها فيها فتبدأ بمد جذورها في الخفاء وتبدأ بالنمو في الظلمات.

ولي عودة إلى هذه المسألة.



هناك 5 تعليقات:

Muawiya Alrawahi يقول...

والله آخر مرة حسبت .. حصلت عشرين شخصية ..
اضطراراً .. لو قال إنسان للناس أنا لا اصوم أصبح ملحدا، حتى لو كان يتعلل بأنه مسافر في مسقط .. وأن الله يحب أن تؤتى رخصه ..

ليتك تكتب بأسلوبك التحليلي الجَميل عن الدين الاجتماعي والدين السماوي .. مثل عقوبة الزنى
الإسلام يقول جلد وشهود اربعة

والمجتمع يقول سجن ... وينادي ببقاء هذا القيد ..

هي يقول...

تساؤلاتك الدينية ومقارنتك بالواقع والمجتمع متعبة!!
تهاجمني هذه الأفكار ولا أريد الإلتفات إليها لأنني لا أريدها أن تتشعب وتصل إلى أمور أكبر..أخشى أن أجد نفسي أجادل في وجود الله (استغفر الله)

التاريخ يقول...

مرحباً بك معي يا "هي"
تقولين: (تهاجمني هذه الأفكار ولا أريد الالتفات...)
أتفق معك ولكن ألا يعد هذا شيئاً من الازدواجية التي أرمي إليها؟؟
ألا يعني الهروب وعدم الالتفات نوعاً من الازدواجية ؟؟ الآن هنالك شخصية تسأل وأخرى تهرب من السؤال، وقريباً ربما يتم وئد الشخصية السائلة على يدي الشخصية الهاربة..
سؤال ممتلئ خيرٌ من ألف جواب أجوف يا سيدتي

هي يقول...

ألا تظن أيها "التاريخ" ان تساؤلاتك قد تقود الواحد إلى ال..................

التاريخ يقول...

أهلاً بك يا "هي"
لست أدري يا "هي" لماذا تتركين كل شيء ذاهبة إلى الشق الديني في المسألة.
ألا تعتقدين بأن مسألة الازدواجية التي أطرحها قائمةً لا محالة؟؟
أليس للتعاليم السماوية والأرضية نوقٌ وجمالٌ وخيل وبغال وحمير في هذه المسألة؟؟
أليس لها من رادع أو معالج أو مخفف على الأقل؟

أفهم تماماً ما تعني بقولك : " تساؤلاتك قد تقود الواحد إلى ال.................." ولكن عندي جوابان وسؤال واحد:
1. أعتقد بأن الحدود الموضوعة ديناميكية متحركة لو حاولنا تحريكها ولكن علينا أولاً تحريك القائمين عليها زوراً وبهتاناً.
2. من الأفضل الذهاب إلى الــ.... من البقاء في الـ......فكما يرى الصوفية: لا أحد يستطيع إخراجي من ملكوت الله.
3. أيهما أفضل: دين بلا عقل أم عقل بلا دين؟؟
شكراً على العبور الطيب.