فيما كان وما سيكون

الأربعاء، أكتوبر 07، 2009

الإطار: أزياء الدين والدنيا


كم كان عبقرياً أول إنسان فكر وقرر أن يُلبس مجموعة من البشر زياً موحداً لأداء مهمة موحدة. هذه الفكرة أسميها الإطار وأناقشها هنا.
ما يفعله الزي بكل بساطة هو أنه يُدخل من يتزيا به في إطار: يتحكم ولو بشكل مؤقت في أقوال المتزيي  ويبروز أفعاله وسلوكياته داخل المحيط الذي يعيش فيه.
والزي- الإطار يذهب إلى أبعد من ذلك، خصوصاً إذا طال عليه الأمد، فهو يبدأ في توجيه منهجية التفكير لدى صاحبه، فيفرض أفكاراً ويرفض أخرى ويرسخ رؤىً ومعتقدات بعينها وينبذ أخرى.
الزي-الإطار قد ينتهي إلى فصل أفكار صاحبه عن أقواله وأفعاله، ويحدث شرخاً بين ما يؤمن به وما يفعله وما يقوله.
الزي-الإطار إذن هو حالة من التسليم أو الرضوخ والانقياد المؤقت (أو الدائم) إلى نمط واحد من الأفكار والأقوال والسلوكيات. والخطورة هنا تكمن في أن ذلك يتم على حساب أنماط أخرى من التفكير يرفضها الإطار، أو معتقدات ورؤى لا تناسبه. فكما هو معروف: كل نظرة باتجاهٍ ما، تأتي على حساب نظرةٍ باتجاهٍ آخر.
وتُعد الجيوش النظامية وبعض المؤسسات الأمنية كالشرطة  من الأمثلة على مفهوم الزي-الإطار. إن من ألبسهم زياً موحداً استطاع أن يتخيل تماماً إلى أي مدى يدخل الزي في تأطير أفكارهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم.
كذلك من يدخل إلى مطعم أو فندق من الفئات المنجمة (ذوات النجوم) فإنه يستطيع ملاحظة مفهوم الزي-الإطار الحاكم لسلوكيات ومعتقدات أصحابه.
الزي دائماً وأبداً ما يحدد لصاحبه كيف يقف وكيف يمشي وكيف يتحدث وكيف يسكت وكيف ينظر وكيف يفكر (وكيف لا يفكر).
لقد ذهب الأمر بالبعض من الواقعين داخل إطار الزي إلى الهروب منه كلما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كأن يقوم بارتدائه عند وصوله المكتب وخلعه قبل مغادرته. بل هناك من يلبس دشداشته (إطاراً آخراً) فوق الزي الرسمي من البيت إلى المكتب وبالعكس. فقد أدرك تماماً حجم القيود والمسؤوليات المترتبة على الزي الذي يتزيا به. قد يفعل ذلك، مثلاً ضابط المرور أو رجل الشرطة عموماً الذي لا يريد أن يضطره زيه للوقوف وتنظيم مناطق الازدحام المروري وحوادث الطرق، كما قد يفعل ذلك العامل في مطعم أو محطة وقود كي لا يُسقط عليه زيه قيمة اجتماعية هو لا يريدها.
مفهوم الزي الإطار حاضر كذلك لدى بعض القبائل والأسر الحاكمة كما يحضر ولو بصورة أقل حدية عبر الثقافات والأنواع والأجناس.
وهنالك هرمية داخل مفهوم كل زي، ولكنها تبقى إلى حد كبير هرمية مقدار وليس هرمية نوع: أعني أن الأزياء مازالت تحكم أنماط السلوك والتفكير وإن تفاوت كل زي في حجم الإطار الذي يضعه حول صاحبه.
وهنالك "قيمٌ" متباينة لكل زي داخل الهرمية الواحدة. فالقيمة التي يمنحا زي الضابط تختلف عن القيمة التي يمنحها زي الجندي أو الشرطي مثلاً، والقيمة التي يمنحها زي المدراء في الفنادق تختلف نوعاً عن القيمة التي يمنحها زي النوادل وعمّال النظافة..
كذلك فإن الوصول عبر مفهوم الزي-الإطار إلى قيمة أعلى يستلزم بعداً زمنياً، كما يستلزم سلسلة من التدريب والتطوير وربما الوساطة والمحسوبية ودعاء الوالدين. 
"رجال الدين"، في الدول الإسلامية وبقية الأديان والتجمعات كالنصرانية واليهودية والبوذية وغيرها، مثالٌ صارخٌ على مفهوم الزي-الإطار، والاختلافات بينها تكون غالباً في المقدار وليس في النوع.
بعض رجالات المذهب الإباضي مثلاً يحكمهم إطار من الزي يتلخص في اللحية المسترسلة والدشداشة البيضاء التي لا تتجاوز منتصف الساق والعمامة البيضاء المستديرة المتدلية من الطرف الأيمن ذات "الطرة" الملتفة حول العنق، وربما زاد على ذلك بعض الخنخنة في الحديث:
هم الإباضية الزهر الكرام لهم
بعزة الله فوق الخــلق سلطـــان
الزي الديني يختلف عن الزي الدنيوي في مواضع كثيرة من أهمها:
1.    الزي الديني اختياري إلى حد كبير مقارنة بزي المهام والوظائف الدنيوية، إلا إذا اعتقد رجال الدين أن من لا يتزيا بزيهم فليس منهم.
2.    كلاهما يخرج صاحبه من الإطار الجمعي السائد، ولكن صاحب الزي الدنيوي يخرج من مجتمعه كي يعود إليه ولو بعد حين، وصاحب الزي الديني  يخرج من المجتمع كي يذهب المجتمع وراءه.
3.    الزي الدنيوي محكوم بزمان ومكان ووظيفة ومرحلة عمرية أكثر تحديداً من الزي الديني العابر للأزمنة والأمكنة والوظائف والأعمار.
4.    كلاهما يمارس شيئاً من الإقصاء على الآخر الذي لا يتزيا به، كالتفرقة الحاصلة بين العسكريين والمدنيين في المؤسسة الواحدة وكاعتقاد العسكريين بأنهم أكثر كفاءة وفاعلية في إدارة الأشياء من المدنيين، ولكن إقصاء الزي الديني للآخر يكون في الغالب أكثر حديةً وشمولية وغير قابل لأي نقاش عقلاني منطقي.
5.    الزي الديني غير واضح المعالم من حيث الهرمية الداخلية التي تحكمه مقارنةً بالأزياء الأخرى باستثناء الشيعة ربما وبعض المذاهب والأديان الأخرى التي حاولت إدخال اللون أو الــ(color-code) على أزيائها. فلو حاول جنديٌ كسر هذه الهرمية بارتداءه رتبة أعلى، فستكون مسائلة أشد من مسائلة مراهق أو عشريني تزيى بأزياء الشيوخ..
6.    من الممكن أن يكون الزي الديني طريقاً مختصراً (Shortcut)، غير مبررة وغير متعوب عليها. فالكل يستطيع ارتداءه إذا أراد وبالتالي يستطيع من داخله ممارسة الأدوار النفسية والاجتماعية التي يكفلها له.
7.    كلاهما يلفت الأنظار ولكن الزي الدنيوي يضع مرتديه داخل إطار المحاسبة أو المسائلة بكل مفاهيمها، بينما كثيراً ما يضع الزي الديني صاحبه خارج هذا الإطار.
8.    الزي الدنيوي قد يُعِز صاحبه وقد يُذله، ولكن الزي الديني يفسح لصاحبه صدور المجالس وصدور الرجال وعقولهم حتى وإن لم يكن صاحبه أهلاً لهذا الفتح.
لم أجد جدوى من الكلمات...
إلا رغبة الكلمات في تعذيب صاحبها

هناك 12 تعليقًا:

Muawiya Alrawahi يقول...

تفكير بخطٍّ مقروء ..
رائع للغاية ..


أنت تمارس جريمة كبيرة

تجعل دماغا صدئا غير مستخدم مثل دماغي يفكر بأشياء متعبة للغاية ..

سأحتاج إلى لياقة ذهنية لأتابعك ..

أحييك ..

مودتي ..

عُلا الشكيلي يقول...
أزال المؤلف هذا التعليق.
عُلا الشكيلي يقول...

سلام الله سيدي،
موضوع فلسفي غاية في الروعة،
وجدتني كلما قرأتُ سطرا وإسترسل عقلي على إثره بعض الأسئلة، أجد الجواب في السطور التي بعده!

ولكني أسألك، إن كان الزي هو إطار لحركتنا ، او شخصيتنا، فماذا عن الذين يدخلون في الإطار بهدف او نية مُسبقة او مُبيتة؟!
بمعنى ان هُناك من يرتدي زيا إسلاميا ويدخل في إطاره، ولكن التوجه يكون معاكسا لذلك الإطار !!

بمعنى آخر، هل للمنافق زي محدد مثلما للبقية؟
وإن كان فما هو الإطار الذي يدخل فيه؟! وهل بالإمكان معرفة الشبح الوهم أو المنافق المتصنع لشخصية مؤطرة بزي معين ، من خلال طريقته في إرتداء الزي ذاك، أو من خلال حركاته وسكناته؟! أي هل الزي دائما يحكم نظرتنا للآخر؟!
وماذا إذن حين نقول عن شخص ما (ما يغركم شكله، او هيئته)؟!
كيف نكون قد توصلنا إلى تلك الحقيقة ؟ والإطار يُخبرنا أنه عكس ما نتوهم او نظن فيه؟


سؤال خارج النص:
يبدو لي انكم تملك قلم فلسفي وفكر واعي جدا،
أُخمن انك مؤلف ربما، فهل تخميني او حدسي في محله؟

شكرا سيدي لهذا الركن الجميل.

التاريخ يقول...

أهلاً بك علاّ (زمان؟)
شكراً على الإطراء.
تساؤلاتك لا تحتملها مدونة وحدة ولكن سأحاول سريعاً الإشارة إلى محورين:
أولاً: كلمة شخصية في اللغة الإنجليزية (Personality)، تعني حرفياً القناع. هل تتخيلين ذلك؟؟
ثانياً: فكرة "الزي" تحتمل أن تقابلها فكرة "العري". إذ بعد أن "طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" لم يقف الأمر عند هذا الحد: بدأنا نبحث عن شخصيات مستقلة، عن أقنعة وأطر نتمايز بها، ولنا فيها مآرب أخرى.
يبدوا لي أن المنافق عابرٌ للبراويز والأزياء، ومسكونٌ بها في آن واحد. ستجدين بين ثانيا الفوارق الثمانية التي وضعتها عن الزي الديني والدنيوي، شيئاً من الإجابة على شيءٍ من التساؤلات.

أخيراً، وكما أشرت في المدونة: لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات في تعذيب صاحبها"..
شكراً لك المرور بالتاريخ

غير معرف يقول...

رائع
والعباية السوداء? زي ديني أم دنيوي؟أم أنها تجمع الصفتين إذا كان ذلك ممكنا؟

كلماتك تعذبنا ايضا by the way
مودتي

adel يقول...

أشكر التاريخ على مقالاته المتنوعة والتي تأتي بالجديد والمفيد.

عُرف الزي منذ القدم وقبل عصور التاريخ، وتطور تدريجيا وفق تطور مفاهيم الشعوب والقبائل واحتياجاتها الاجتماعية والتي أتت بالتراكم، وأخذ الزي يتوسع حتى وصل إلى ما وصل إليه في هذا العصر من تعقيد او تنوع.
في البدء كان الإنسان يحتاج إلى اللباس احتياج اضطراري مجرد من التأطير الديني او الرسمي، جاء حاجة ملحة ليُتقي به برد الشتاء، وعوامل الطبيعة القاسية، ولا يهتم الى رسم اللبس او لونه ، ولطبيعة حركة الإنسان الطموحة والتي تخذ طريقها من البساطة الى التعقيد ومن العفوية الى الافتعالية المتعمدة أو المفروضة من سلطة أقوى.
تطرف اللبس الى زي ديني (كاهن) / او حاكم (شيخ قبيلة) ومن الزي الى أزياء تقسم المجتمع الى فئات وفق الزي الذي يرتديه أو يُسمح له بارتدائه من السلطات المختصة دينية كانت أو حاكمة .
كان الزي الديني هو أقوى سلطة على مر التاريخ حتى على السلطة الحاكمة فقد مرت فترات تاريخية على الإنسان بان يكون حاكمهُ هو كاهنه ، وكاهنهُ هو حاكمه مما أدى إلى اندماج السلطتين في سلطة واحدة تطغى عليها قسمات السلطة الدينية مما كرس قدسية الزي الديني وتأجيجُه في الشعوب حتى وقتنا المعاصر.
نعم الملتحي والمتخنجر وصاحب العمة المائلة هو من يتصدر المجالس بطلب من العامة، وهذا اعتقاد يغلب عليه التقليد المتوارث، وليس التفكير السليم، ومن باب الإنصاف حتى المفاهيم الدينية المشرعة لا تأمر بتصدر المجالس تكلفاً بل تأمر بأن يجلس الإنسان حيثما انتهاء به المجلس، ولكن هذا يعد من نفاق العامة وسوء تقديرهم، واستغلال رجالات الكهنوت الديني لهذا الضعف في العامة فيكون حالهم كالراعي وقطيعه.
- دعنا نعود الى الزي ـ
ومن الجدير ذكره كانت جلود الحيوانات وفرائها طليعة الأزياء الإنسانية فكان شيخ القبيلة أو الملك الحاكم يرتدي جلد النمر أو الذئب أو أي حيوان كاسر، ليُميز الحاكم من المحكوم مثلا، وكان الكاهن يتمنطق ويتزيا ببقايا عظام أحدى الحيوانات او الطيور، وفق النظرة الاعتقادية ذات الطابع المقدس تجاه حيوان او طائر ما .
والمدنية الحديثة كيفت الأزياء المهنية وفق الضرورة العملية وراعت كذلك الناحية النفسية (الانطباع) للزي من حيث لونه وتقاطيعه ، فلنخذ مثال على ذلك : لبس الممرضة يدعو إلى التفائل بسبب قسماته ولونه ، وزي العسكري يمنح الهيبة وتارة الزجر ، وهكذا اذا جاز التقدير.
راجيا أن لم أضف شيئاً لم أنقص شيئا .

التاريخ يقول...

يا غير المعرف..
العباية ومن يرتديها محتاجة overtime
أعدك أن أعود إليها

التاريخ يقول...

أهلاً عادل
حضورك إثراء
وغيابك انتظار
أتفق معك تماماً

مقالات يونُس البوسعيدي يقول...

بعض رجالات المذهب الإباضي مثلاً يحكمهم إطار من الزي يتلخص في اللحية المسترسلة والدشداشة البيضاء التي لا تتجاوز منتصف الساق والعمامة البيضاء المستديرة المتدلية من الطرف الأيمن ذات "الطرة" الملتفة حول العنق، وربما زاد على ذلك بعض الخنخنة في الحديث:
هم الإباضية الزهر الكرام لهم
بعزة الله فوق الخــلق سلطـــان


* هل تتكرم بإيضاح أكثر لهذا الكلام الذي اقتبستُه عنك؟
ماذا يعني خنخنة؟

غير معرف يقول...

العزيز ايها التاريخ
احييك اينما كنت و اتفق في كثير مما جاء في اضاءاتك المميزة . المؤلم ان البعض يقضي عمره كله في الاستماتة حد القرف و " الليونة " لتحقيق متطلبات هذه الزي و الى درجة المرض خاصة بين بعض رجال الدين و الشيوخ و جاذبية الزي الديني او النفوذ الذي يتسلل منه كالوباء فلا تستطيع الهرب من سطوة حضوره على تفاصيل يومك و لا بوسعك ارتدائه ! . الا تعتقد ان الزي أحيانا مدعاة حقيقية للتمرد عليه فبقائي بزي نادل مثلا يستفزني باستمرار للعمل الجاد و التطور للحصول على زي مدير الفندق على سبيل المثال .
سؤالي هل قيام الدولة مثلا بمنع زي معين يسحب تدريجيا المصاحبات السلوكية المرضية لهذا الزي في المجتمع بمعنى هل منع النقاب في الجامعة او العمل مثلا يمكن ان يزيح النقاب النفسي الاخطر الذي تفرضه مرتديته على نفسها و على قناعاتها او اطفالها

التاريخ يقول...

"الزي أحيانا مدعاة حقيقية للتمرد عليه".. أحييك عزيزي على ذلك. نعم، كثيراً ما كان الزي مدعاة للتمرد عليه. بيد أن البعض يتمرد على زيه ليس بخلعه وإنما بالتمسك به وتسويقه للآخرين على أنه الخلاص النهائي، بل وبقمعهم وقهرهم كي يتزيوا بما يتزيا هو به..
منع بعض الأزياء قد يأتي بعواقب وخيمة كما بعض المحاولات في بعض الدول الأوربية التي أتت بهزات ارتدادية عنيفة من شارع إسلامي مفلس إلا من الأطر والأقنعة والأزياء..
أخطر ما في الزي يا صديقي هو تحوله من خارج الجسد إلى داخل الروح.. تخيل معي مجموعة من الأرواح المقنعة..!!

التاريخ يقول...

مرحباً يونس
أعني بكل بساطة تكلف بعضهم حين التحدث خصوصاً في الأمور الدينية.. فتجده يعمد الإدغام بغنة في مواضع لا تحتمل الإدغام ولا الغنة..
ولكن الأهم فيما أعنيه يا يونس هو أن الصوت ولغة الجسد والإيماءات أبعاد لا تتجزأ عن الزي أو الإطار.