فيما كان وما سيكون

الأربعاء، ديسمبر 23، 2009

في الرق ودولة المؤسسات


لو لم تكن هذه مجرد مدونة، ولو كان لي شغف علماء الإحصاء، لحصرت عدد "السادة" و"الشيوخ" الذين تعينوا في مناصب حكومية في الدولة العمانية؛ ولحددت نسبتهم المئوية بين المسئولين من فئتهم (بلغة السيارات)، وكذلك نسبتهم من عدد السكان المهيئين والمؤهلين لشغل هذه المناصب.
لكني أترك ذلك لعلماء السياسة والاحتمالات والإحصاء.

مفاهيم مثل "السيد" و"الشيخ"، لو تأملناها جيداً، هي مفاهيم ذات صلة وثيقة بمفهوم الرق والطبقية الاجتماعية الحتمية المتوارثة.. ولكن لا نشعر بها جيداً ما لم نُسقطها على مفاهيم حديثة كالمؤسسات والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون وتساوي الفرص.

أريد هنا قول شيئين:
أولاً: اللقب الاجتماعي السياسي كالشيخ أو السيد يفرض سلطةً حتمية مسبقة وغير قابلة للمجادلة أو التساؤل،. ودخوله (اللقب) إلى المؤسسة يُربك فكرتها ويخلخل هرميتها ومبادئها الإدارية والعدلية والاقتصادية.
ثانياً: معايير التلقيب (إعطاء اللقب) الاجتماعي لا تتماشى مع معايير التنصيب المؤسساتي. بالتالي يصبح التوفيق بينهما نوعاً من المقامرة.

مفهوم الشيخ أو السيد مفهومٌ جامد متوارث وغير قابل اجتماعياً للتغيير أو الحذف أو التحريك (علواً أو انخفاضاً). ومعاييره لا تخضع لمعايير اللقب المؤسساتي كمنصب الوزير أو الوكيل. وبالتالي يُصبح إسقاط اللقب الاجتماعي على المؤسساتي إسقاطاً لمعايير اجتماعية بعيدة كل البعد عن معايير العدل والمساواة والمؤسسة وسيادة القانون.

المنصب، وفق المفهوم المؤسساتي يأتي (وقد لا يأتي) بعد سنوات من الكد والكدح والمنافسة الشريفة والتدرج والتضحيات في سبيل المؤسسة.
على النقيض من ذلك، اللقب الاجتماعي: دائماً وأبداً يأتي لصاحبه جاهزاً على طبق من الطبقية الجامدة والهرمية الجوفاء والإقصائية وربما الظلم. بالتالي يُصبح التزاوج بين اللقبين (كمعالي الشيخ الوزير مثلاً) ما هو إلا هجمة قبلية على المؤسسة، وترسيخ للطبقية الاجتماعية، وقبول ضمني لمبادئها، وتمكين مباشر لها للنيل من موارد المؤسسة/الدولة البشرية والمالية والطبيعية، وتمرير لأجندات ذات طابع عرقي قبلي مذهبي جهوي إقصائي.

ما يدلل على خلخلة المفهومين الاجتماعي والمؤسساتي وانتصار القبيلة على المؤسسة هو أن الألقاب التي تمنحها المؤسسة اتخذت صفة التخليد والجمود تماماً كالألقاب الاجتماعية: قلما يخرج وزيرٌ من وزارته/قبيلته إلا ليدخل إلى وزارة/قبيلة أخرى، وإن خرج منها فإنه سوف يحمل معه لقب "معالي" إلى كل مثاويه الأخرى والأخيرة: وربما كان من بينهم من يفكر بتوريث اللقب إلى أبناءه.

حتى وإن قبل مجتمعٌ ما بالحكم السيادي المتوارث لاعتبارات تاريخية وثقافية وحتى عاطفية ونفسية، كيف تقبل السيادة نفسها بنشأة سلطنات داخل السلطنة ومملكات داخل المملكة؟ المسألة إما أن تكون حسابات وتوازنات اجتماعية على حساب المؤسسة، وإما أن تكون انفلات مركزي وخروج الأشياء عن التحكم والسيطرة، وإما أن تكون الأولى ومن ثم آلت إلى الأخرى. وفي كل الأحوال جاءت النتائج سلباً على حساب الجميع: السلطة والمؤسسة والمجتمع والفرد.


مفهوم الشيخ أو السيد هو امتداد ثقافي لمفهوم الرب..بيد أن الرب يستمد شرعيته بين عباده من كونه هو الخالق والمنظم والمسير للكون. الشيخ أو السيد في السياق المؤسساتي لا شرعية لسلطته ولا مبرر لتحركاته بكل هذه الحرية في أروقة المؤسسات. وإذا كانت المجتمعات قد قبلت بذلك لاعتباراتٍ ما، فعلى المؤسسة أن ترفض ذلك لاعتبارات أهم، خصوصاً في هذه المرحلة من التاريخ.



الطيور التي لا تطير..
الطيورُ التي أقعدتْها مخالَطةُ الناس
مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..
فانتخَتْ
وبأعينِها.. فارتخَتْ
وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ
ما الذي يَتَبقى لهَا.. غير سكينة الذبح
غيرُ انتظارِ النهاية.
إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!
***
الطيورُ.. الطيورْ
تحتوي الأرضُ جُثمانَها.. في السُّقوطِ الأخيرْ!
والطُّيُورُ التي لا تَطيرْ..
طوتِ الريشَ, واستَسلَمتْ
هل تُرى علِمتْ
أن عُمرَ الجنَاحِ قصيرٌ.. قصيرْ؟



السبت، ديسمبر 12، 2009

الإسلام والرق وتوظيف اللون


تناول الإسلام ظاهرة الرق بأكثر من أسلوب وعلى أكثر من مستوى؛ من بينها:
1.    في الدية والقصاص "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ...".
2.    في التكاليف والعقوبات: فمثلاً عورة الحرة ليست كعورة الأمة، ولباس الحرة ليس كلباس الأمة، وعدة الحرة ضعف عدة الأمة. والإماء المحصنات، إذا أتين بفاحشة "فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب".
3.    في النكاح: الأمة والعبد لا يتزوجان إلا بإذن السيد الحر. أما الحر فله أن يتملك أي عدد شاء من الإماء، وموضوع الاستئذان هنا غائب تماماً فقهياً كون العبد سلعة لا أقل ولا أكثر.
4.    عتق الرقاب في الخطايا: يرى البعض أن في ذلك تدرجٌ في إلغاء الرق، بينما يمكن المجادلة بأن في ذلك تثبيتٌ له. فالعتق يُطرح هنا كعقوبة دنيوية عن خطيئة بعينها. والعقوبة تعني ضمناً التضحية بما نحب، وفي ذلك ترسيخ ضمني للعبودية كظاهرة "محبوبة" ينبغي المحافظة عليها. فإذا كان الحر سيخسر عبداً عن خطيئة ارتكبها، كالجماع في نهار رمضان، فعليه التزود بأكبر عدد ممكن من العبيد، تحسباً لمثل هذه الخطايا، بل وربما استمراءً لمثل هذه الخطايا. (هل الحكم بعتق الرقبة جاء للحث على الغزو والسبي لا لإلغاء الرق؟)
5.    السبي وملك اليمين في المغازي الإسلامية كما اتضح أعلاه.
6.    تقديم العبيد كهدايا: فعن ميمونة بنت الحارث أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: "أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟" قال: "أو فعلت؟ " قلت: "نعم" قال النبي صلى الله عليه وسلم" أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجركمتفق عليه.

يمكن القول بأن هذه الأساليب في طرح مسألة الرق في الإسلام هي أساليب اجتماعية وفقهية يحكمها سياق تاريخي. بيد أن هنالك أسلوب مغايرٌ تماماً. أسلوب ربما يكون أقواها وأرسخها لأنه يعتمد على ما سأسميه تجاوزاً "اللغذهنية". وهو، بتبسيط شديد، أسلوب لغوي-ذهني: يستخدم اللغة في إسقاط مفهوم بعينه على مفهوم آخر، وهو هنا تحديداً توظيف اللون في القرآن، كما جاء في قوله تعالى "يوم تبيّض وجوه وتسوّد وجوه". اللغة هنا لا تقف عند حد الوصف ولا عند البعد التاريخي للرق ولا يبدو بأن بينها وبين الرق أي علاقة أصلاً. وهنا تكمن الخطورة، فالآية تعمل، تحت مستوى وعي القارئ، على بناء وترسيخ مفاهيم ذهنية محددة بإسقاط "مفهوم" اللون الأبيض على الخير والخيريين، وإسقاط "مفهوم" اللون الأسود على السوء والمسيئين. فالآية لا تقول بأن ذوي الوجوه السوداء هم أصحاب النار ولكنها تقول بأن أصحاب النار وجوههم سوداء. والآية لا يمكن قراءتها في سياق مرتبط بالرق، ولكنها تستعير ضمناً مفهوم الرق بأكمله لتبني به مفاهيم الخير والشر والثواب والعقاب .

اللون هنا استعارة: والآية تُحمّل اللون الأسود أو تبني به مفاهيم القبح والبغض والشر والدونية والإقصاء من الرحمة الإلهية، وتبني من اللون الأبيض مفاهيم الجمال والمحبة والخير والعلو والقرب من ملكوت الله.
ونجد هذا الأسلوب راسخ ذهنياً وسائد اجتماعياً وموظفٌ لغوياً في قولنا مادحين "بيّض الله وجهك"، وقولنا ذامين "سود الله وجهك"، (تُرى ماذا يقولون في السودان؟).
  
خطورة الأسلوب اللغذهني هذا تكمن في استعصائه على المعالجة كونه يمر تحت مستوى الوعي وتحت رادارات التقدم الحضاري والتسلسل التاريخي للأحداث. فجميع الاطروحات التي سبقت يمكن تجاوزها وحلحلتها بأساليب مختلفة كالدخول في قضايا الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، وأسلوب "ذهبت طائفة"، والضعيف والصحيح، وتأريخية النص. وفي أضعف الأحوال يمكن معالجة القضية بمجموعة من القوانين الوضعية، والبرامج الاجتماعية والسياسية التي تحارب التفرقة على أساس العرق أو اللون أو الجنس. ولكن الأسلوب الذهني راسخ تناقلته الأجيال تحت مستوى القدرة على التغيير كونه تحت مستوى الوعي.





سيري ببطءٍ، يا حياة،
لكي أراك‏ بكامل النقصان حولي.
كم نسيتك في خضمّك باحثاً عنّي وعنك.
وكلّما أدركت سرّاً منك قلت بقسوةٍ: ما أجهلكْ!‏
قلْ للغياب: نقصتني وأنا حضرت ... لأكملكْ!‏